الجمعة، 2 سبتمبر 2016

آثار التحولات الإقتصادية على العقد

آثار التحولات الإقتصادية على العقد


لاشك أن التطورات التي لحقت الظواهر الاقتصادية الكبرى التي يعرفها العالم تفرض على الدولة خاصة السائرة في طريق النمو تحسين برامجها الاقتصادية لمواجهة التحديات الكبرى والخطيرة للعولمة بتطوير آلياتها الإنتاجية والرفع من قدراتها التنافسية لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية التي تساهم سياسة المنافسة في تجسيدها والتي حددها خبراء الاقتصاد في أهداف تهم الأداء الاقتصادي للشركات والأداء الاقتصادي للأنشطة الاقتصادية وخدمة الأداء الفردي والجماعي والتوزيع غير الممركز والأمثل للأنشطة الاقتصادية وترسيخ دعائم الحرية الاقتصادية وإنعاش قواعد قانونية شفافة في عالم المقاولات والأعمال[1].
وأمام هذه التحولات لابد أن التعاملات البشرية في إطار ما يسمى بالتعاقد أو العقد الناشئ عن توافق إرادتين أو أكثر على إحداث أثر قانوني، سواء كان هذا الأثر هو إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه[2]. نجد أن الضابط الحقيقي لهذه التعاملات هو العقد وأن الضابط الحقيقي لهذا العقد هو الإرادة، إلا أن هذه التحولات تركت بصماتها على هذا النظام القانوني التقليدي للعقود والتي يثبت أركانه على أساس مبدأ سلطان الإرادة التعاقدي، حيث يرجع الأصل التاريخي لهذا المبدأ إلى القانون الكنسي الذي كان يوجب الوفاء بالوعود بل ويعتبر مدنبا من نقض وعده، خاصة إذا علمنا أن الوعد كان يقترن باليمين، ولا يجوز الطعن فيه إلا إذا صدر تحت تأثير التدليس، وحيث كان العقد العاري (المجرد من الشكل) يكفي بذاته لترتيب الالتزام، لكن على أساس أن تكون إرادة الملزم غير معيبة ومتجهة إلى غرض مشروع، أما قبل هذه المرحلة فلم يكن هذا المبدأ معروفا، فالقانون الروماني لم يقر به في أية مرحلة من مراحل تطوره طالما كانت صحة وإلزامية الاتفاقات مرتبطة بضرورة صبها في قوالب شكلية أو بمجرد تبادل إشارات أو عبارات محددة دون اعتبار لمدى سلامة الإرادة أو حتى لعدم وجود أو عدم مشروعية سبب الالتزام وقد ظل الأمر كذلك حتى بعد ظهور بعض أنواع من العقود بحيث ظلت الشكلية فيها هي الأصل وظلت الرضائية مجرد استثناء.
وما لبث أن عاد مبدأ سلطان الإرادة إلى الانتعاش في أوائل القرن السادس عشر لتعود للاتفاقيات قوتها ولتعزز بعد ذلك مع مشارف القرن الثامن عشر حين ظهور أنصار القانون الطبيعي والمذاهب الفردية عموما، والذين نادوا بتقديس حرية الفرد وتقوية دوره في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية وكذا القانونية، وقد توج ازدهار هذا المبدأ بمبادئ الثورة الفرنسية (1789) المكرسة لحرية الفرد وما كان له من تأثير على النزعة التي هيمنت بعد ذلك على مدونة نابليون (1804) ومنها إلى التشريعات الأخرى التي استلهمت أحكامها[3].
ولاشك أن أول من رفع شعار "حرية المبادلات، حرية العقود، حرية العمل وحرية المزاحمة" هم الفيزيوقراطيون وعلى رأسهم آدام سميث الذي روج للمبدأ الشهير "دعه يعمل دعه يمر-" laisser faire laisser passer"، ولقد صدر ق.ل.ع مع دخول الحماية للمغرب سنة 1913. في وقت كانت فيه حرية الإرادة تلعب دورا مهما وكبيرا وباعتبار التطور الاقتصادي الذي عاشته أوربا آنذاك وكثرة الإنتاج وضرورة البحث عن منافذ وأسواق لترويج هذه المنتجات، فقد نتج عن كل ذلك أن عمدت سياسة الاستعمار أو نظام الحماية، إلى تطبيق مبدأ "دعه يعمل" في الداخل للوصول إلى تطبيق الشق الثاني منه وهو "دعه يمر"، أي ضرورة وجود أسواق مختلفة لترويج هذه السلع والمنتجات المتراكمة الناتجة عن مبدأ "دعه يعمل"، وهكذا كان المغرب من بين الدول التي طبق عليها المبدأ السابق، فخضع للحماية الفرنسية ومن تم طبق عليه مبدأ الحرية الاقتصادية الذي نتج عنه الحرية التعاقدية[4].
وإذا أرجعنا انتصار مبدأ سلطان الإرادة إلى عوامل اقتصادية بالأساس فهذه العوامل ذاتها بعد أن تطورت وقامت الوحدات الإنتاجية الكبيرة ونظمت طوائف العمال على إثر اختلال التوازن بين القوى الاقتصادية، مما أدى إلى انتشار روح الاشتراكية وقيامها في وجه المذاهب الفردية، هذه العوامل كان من شأنها أن تنتقص من مبدأ سلطان الإرادة، فيكون هذا المبدأ قد قام على أساس اقتصادي[5]، وانتكس متأثرا بعوامل اقتصادية اعتمدته كمطية بين ما هو اقتصادي وقانوني، أو بين رجل الاقتصاد ورجل القانون، فإذا كان الأول يحكمه عامل الربح والاحتكار والتعسف في الشروط والمنافسة، والثاني يحكمه العقد والاقتصاد معا، حيث يكون مجبرا أمامهما بوضع سياسة معينة لتوجيه الاقتصاد الوطني وفقا لمتطلبات اقتصادية وتجعل العقد يحمل أرباح اقتصادية ونفس الوقت اجتماعية، ومن خلال تفعيل الاقتصاد لكسب الرهانات الداخلية المتمثلة في الصحة، التعليم، العدل لرفع مؤشر النمو الداخلي وكسب الرهانات الخارجية المتمثلة في العولمة والتنمية .
وبهذا تصبح الدولة تحمل على عاتقها مسؤولية التوفيق بين هذه الأهداف التي أدت إلى خلق علاقة تنافسية بين القانون الاقتصادي والقانون العقدي والقانون الدولي، هذا الأخير الذي يخضع هو باستمرار لتطورات الاقتصاد أو لضغوطات دولية تفرضها عليه من أجل التدخل التشريعي لتوجيه الاقتصاد وتوجيه العقد من أجل التجاوب التفاعلي بين القانون والواقع الاقتصادي في صورة مؤسسة العقد الاقتصادي والاجتماعي.
بعدما ظهرت أنواع جديدة من العقود ليست منظمة من قبل ق.ل.ع الذي تقادم وشاخ وأصبح بذلك عاجزا عن مواكبة هذه المتغيرات، وأدى إلى عدم الفعالية تمخض عنه ما سمي "بأزمة العقد"، دفعت إلى تزايد تدخل المشرع لحماية الطرف الضعيف في العقد من خلال ظهائر خاصة من أجل تحقيق التوزان العقدي النسبي في طرفي العلاقة. لكن الإشكال المطروح كيف تعامل القانون الرسمي (الدولة) مع ثورة العقود على ق.ل.ع؟ حتى لا يطلق العنان إلى مبدأ سلطان الإرادة أو ليس في هذا ضرب لهذا المبدأ؟
ينتج عنه تساؤول حول طبيعة العلاقة التي ستربط العلاقات الاتفاقية التي يحكمها قانون العقود والميدان الاقتصادي والتي يحكمها قانون المنافسة، هل يتعلق الأمر باندماج كامل أم تعارض وتصادم؟ أو بعبارة أدق هل الأمر يتعلق بتراجع المبادئ الأساسية لقانون العقود أم بتطورها بسبب تواجد قانون المنافسة إلى جانبه؟ بمعنى آخر هل يسير العقد نحو الانهيار أم أنه مازال ثابتا بالرغم من جميع التغيرات التي لحقت التحولات التي أصيب بها ؟ وإذا كان كذلك فإلى أي حد سيبقى محافظا بمناعته أمام مقتضيات التحولات الاقتصادية.
عموما سنحاول الإجابة على هذه الإشكاليات من خلال هذه الدراسة وعلى هذا الأساس ارتأينا تقسيم الموضوع التالي:
-      المبحث الأول: علاقة العقد بالظروف الاقتصادية
·       المطلب الأول: تدخل الدولة لتوجيه الاقتصاد
·       المطلب الثاني: تدخل الدولة لتوجيه العقد
- المبحث الثاني: مصير العقد نتيجة الظروف الاقتصادية
·       المطلب الأول: ثبات العقد واندماجه أمام الظروف الاقتصادية
·       المطلب الثاني: انهيار العقد وتراجعه أمام الظروف الاقتصادية.

المبحث الأول: علاقة العقد بالظروف الاقتصادية
نتج عن التقدم التكنولوجي والتقلبات الاقتصادية الكبرى مع نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، والأزمات التي صاحبتها، وظهور الفوارق الجسيمة مع الإجحافات التي لحقت طبقات عديدة من كل المجتمعات التي تنتهج اقتصاد الليبرالي، وإلى أن ظهر تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد من أجل نمو منسجم وبالتالي رفع الحيف عن الأطراف الضعيفة والذي يتماشى والنظام الرأسمالي الذي يؤمن بضرورة تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد، ولأن القانون يمكن اعتباره نظام مستقل بذاته، وذلك لأن القاعدة تتركب من عدة عناصر يعود أصل تكوينها إلى مجموعة من المصادر التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضا[6]، وهذه الأخيرة التي أثارت مخاوف تقنية الغرض منها خدمة تصورات الاقتصاديين[7]، مما حدا بالدولة كذلك التدخل لتوجيه العقود لحماية الطرف الضعيف في هذه العلاقة التي يحتضن كل واحد منهما لطرف الآخر بشدة، وذلك من أجل تحقيق التوازن العقدي النسبي. إن السؤال المطروح هنا كيف تدخلت الدولة لتوجيه الاقتصاد لمواكبة الاقتصاد العالمي والتنافسية الشرسة التي لا ترحم بشكل يتناغم وازدواجية قانون العقود وقانون المنافسة في العلاقات الاتفاقية في الميدان الاقتصادي؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه من خلال تدخل الدولة لتوجيه الاقتصاد (المطلب الأول)، ثم تدخل الدولة لتوجيه العقد (المطلب الثاني).
المطلب الأول: تدخل الدولة لتوجيه الاقتصاد
وكما سبق الذكر في ظل الضغوطات التنافسية الجديدة وتسريع معاملات التطوير التكنولوجي للمعدات والسلع والخدمات تصبح هناك ضرورة ملحة للبحث عن صيغ جديدة لتوسيع حيز الفضاء الاقتصادي الذي تتحرك في إطاره الوحدات الاقتصادية ويفرض خلق فضاء اقتصادي أكثر قوة وشفافية ومناعة وتنافسية، هذا التوجيه حول النظام الاقتصادي الليبرالي من منطلق يثق بالقوانين الليبرالية للسوق والمنافسة الحرة إلى اقتصاد موجه من طرف الدولة التي تتدخل مباشرة في تنظيم العقود والإنتاج وتوزيع الأموال والخدمات وضمان استقرار الأسعار، وحفظ معدل جيد لتداول عملياتها باعتبار التضخم من أعظم المشاكل التي تؤرق الاقتصاديين، هذا المشكل له ارتباط وثيق بمعدل النمو الذي تتدخل الدولة وبصفة مستمرة لتجعله منسجما مع التحولات الاقتصادية وتبعاته، والمغرب بدوره ابرم مجموعة من الاتفاقيات منها اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي واتفاقية التبادل الحر مع أن التاريخ لم يثبت أن التنمية تتحقق من الخارج، على الرغم مما يتطلبه ذلك من ضرورة تأهيل المقاولات الوطنية والرفع من مستواها وتحيين النصوص القانونية المنظمة لها والمؤطرة لنشاطها وتقريبها من نظيراتها الأوربية، وكأداة للإنتاج والتوزيع والتشغيل وتنشيط الحركة التجارية والصناعية[8]، ولرفع من قدرة الاقتصاد على جلب الاستثمار والوصول إلى منظومة الاقتصاد العالمي لأن ظاهرة العولمة الاقتصادية فرضت على الدول المتقدمة والسائرة ف طريق النمو على حد سواء مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية والمتمثلة في تحرير الأسعار ورفع الحدود أمام الواردات، وتحرير الاستثمار الخارجي المباشر.
فعولمة الاقتصاد تعني اقتصاد لا يعرف الجهات والإيديولوجيات المختلفة، وإنما تعتمد مذهبا واحدا هو الليبرالية، يدعو إلى شراكة كونية يتعاقد فيها رجال المال ورجال الأعمال، وتتفاوت فيها شروط التنمية تبعا لنسبة أرباح المستثمرين في عالم كأنه قرية واحدة يحركها فكر فريد وكأن المال الموجود في اليابان والولايات المتحدة الأمريكية أو أوربا له حق الحركة في جميع أنحاء العالم من دون حاجز خصوصا بعد تطبيق اتفاقية الكاط[9].
وإذا كان المغرب قد اختار النظام الليبرالي في مجتمع جوانب سياسية فهذا التوبة لم يبرز بصيغ اعتباطية وارتجالية وإنما جاء كاعتراف لما أصبحت تجعله المقاولة من مصالح متعددة ليس فقط على المستوى الاقتصادي وإنما على المستوى الاجتماعي والدولي وهكذا ينبغي على جميع أرباب المقاولات الإسهام في الجهاد الأكبر الاقتصادي بفعالية وحماس فلا يجدر ببعض المقاولات المغربية أن تستثمر في الاعتماد على اقتصاد  الريع والامتيازات والمكاسب السهلة ولا أن تضع نفسها على هامش حركة التعبئة العامة... من أجل مغرب الاقتصاد الاجتماعي
وإذا كانت الزيادة في الإنتاج وبالتالي الاستهلاك مسألة متعلقة بالسياسة الاقتصادية  فإن القانون، بالمقابل هو الذي يعود إليه أمر تحديد الإطار القانوني والرفع من التنظيم الاقتصادي الملائم من خلال تنظيمها تنظيما دقيقا، لذلك يحاول أن يسير بسرعة منسجمة مع سرعة التقلبات الاقتصادية، مما أدى إلى كثرة التدخلات والتدابير التشريعية لدرجة أصبح المتخصصون في الميدان القانوني يصعب عليهم أن يعلموا علم اليقين بجميع القواعد وتفاصيلها المختلفة التي تتغير باستمرار.
وخلاصة ما سبق بأن كل هذه المتغيرات هي المقصود منها التحولات بمعناها الواسع والتي أثرت لا محالة في العقد بشكل جلي.
مما دفع بالدولة لتدخل من جديد لتوجيه العقود لتأكد أنها صاحبة السيادة دائما ولا تضيع هيبتها أمام التطورات الحاصلة.
المطلب الثاني: تدخل الدولة لتوجيه العقد
وكما سبق توضيح ذلك، فإن إرادة الدولة الكامنة في وضع سياسة معينة وتوجيه الاقتصاد الوطني وفقا لمتطلبات وحاجات الزمن الاقتصادي ويفرز ضرورة ملحة لتوجيه العقود له نتائج على الحرية التعاقدية بمعنى أن إرادة الأطراف هي التي تنتج العقد تحت مبدأ سلطان الإرادة كأهم مبادئ قانون الالتزامات والعقود كرسه الفصل 230 من نفس القانون، أسسه الفكر الاقتصادي في الظاهر والسياسي في الخفاء.  فهذه الحرية التعاقدية التي سادت خلال القرن الثامن عشر كانت تقضي بأن كل التزام حر يعتبر عادلا، وهو ما أكده الفيزيوقراطيون، غير أننا لا نسلم بهذه الفكرة اليوم على إطلاقيتها لأن القول بغير ذلك يعني أن يبقى المشرع مكبل الأيدي ويمتنع عليه تنظيم عقد الشغل مثلا، وترك الأمر لحرية المشغل والأجير، وهذا أمر مبالغ فيه، كذلك أنه في جميع هذه الأمثلة نكون أمام اللاتوازن في العلاقة العقدية[10]، الموازي لعدالة عقدية، مما توجب معه على المشرع التدخل لحماية الطرف الضعيف في العقد أمام هذه التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بواسطة قواعد قانونية آمرة تلزم الأطراف تحت طائلة العقوبة عند الإخلال بها. لكن أليس في هذا ضرب بمبدأ سلطان الإرادة؟ فطالما أن العقد أصبح يحمل أرباحا اقتصادية وأن العلاقة بين القانون والاقتصاد هي علاقة نفعية أكثر مما هي مسألة خدمة القانون للاقتصاد، فالتكامل بينهما ضروري لضمان الحق في التنمية باعتباره حقا من حقوق الإنسان، وأمام عجز قانون الالتزامات والعقود عن احتضان جميع هذه التعاملات بفعل التحولات الاقتصادية الرأسمالية التي بدأت تضع شروطا تعسفية في العقد بحكم التفوق التقني والاقتصادي في عقود الإذعان التي أصبحت تنتشر يوما بعد يوم وبأشكال مختلفة نتيجة التطور الاقتصادي الحديث الذي اتجه إلى أسلوب الانتاج الكبير وما استتبع ذلك من قيام شركات ضخمة  ومؤسسات تتمتع باحتكار قانوني  أو فعلي لسلعة  أو خدمة بإملاء إرادتها وشروطها المعدة مسبقا على الراغبين في التعاقد معها دون أن يملكوا منافسة هذه الشروط، لكن في الأونة الأخيرة بدأ مجال هذه العقود يطبق تدريجيا نتيجة شدة المنافسة التي ألقت بشكل شبه كلي خاصة الاحتكار فلا تكاد تجد اليوم سلعة أو خدمة محتكرة لدى منتج واحد، وذلك راجع إلى توجيه الاقتصاد نحو الأسواق العالمية في إطار ما يعرف بالتجارة الحرة أو التبادل الحر كمظهر من مظاهر العولمة، لذلك فهذه العقود بدورها في طريق الاندثار إلى جانب ذلك ظهور قطاعات اقتصادية جديدة تمخض عنها ظهور أنواع العقود والتصرفات المتطورة هدفها تسريع عملية التعاقد وربح الوقت والجهد، فقد كان لتزايد الانتاج وغزارة كمية السلع المهنية حتى التاجر، وخول هذا الأخير شراء سلع بكميات كبيرة وبيعها بموجب نماذج العقود وذلك لتفادي المساومة التي تستغرق وقتا وجهدا وهي نتيجة لحد تنظيمها والغير منظمة من قبل قانون الالتزامات والعقود تمخض عن هذا الوضع ظهور أزمة العقد، كان لزاما على المشرع التدخل من أجل التخفيف من حدة عقود الإذعان وتنظيم العقد النمطي الذي يصنع لخدمة ظاهرة اقتصادية معينة لحماية الزبون والفاعل الاقتصادي والإنعاش الاقتصادي الوطني مثل عقود الرحلة المنظمة، وعقود اتصالات المغرب، وغيرها من القعود التي تنظم مجالات مختلفة، فهذا التدخل جاء كضرورة كمحاولة الحفاظ على استقرار المعاملات بشكل جديد يتماشى  وتفعيل الاقتصاد لكسب الرهانات الداخلية والخارجية.
لكن أمام هذا التدخل هل سيحتفظ العقد بنفس مفهومه الوارد في قانون الالتزامات والعقود؟ أم سيكون من الواجب عليه (المشرع) تصحيحه وفق هذه التحولات الاقتصادية؟ وإذا تم إقرار تصحيحه فهل سيتم ذلك من داخل قانون الالتزامات والعقود؟ أم من خارجه.

المبحث الثاني: مصير العقد نتيجة التحولات الاقتصادية
عمل المغرب على وضع إستراتيجية بغية تهييء الإطار القانوني لجلب الاستثمار وتمكين المقاولة الوطنية من الوسائل والآليات المحفزة عل الانخراط العملي في الإقلاع الاقتصادي كخيار في ظل انعكاسات العولمة وبروز التنافسية المحتدمة، فكانت البداية بتبني سياسة... وإخراج... ووصولا... وبقدر ما عمل المشرع على توفير القوانين المرتبطة بعالم المقاولة والشغل... لأن القانون ليس مجرد علم وحسب، وليس مجرد عمل عقلي بحت، بل هو من العلوم ذات العلاقة الوثيقة بالمجتمع، فهو يهدف إلى تحقيق مصلحة الجماعة، وينصهر في طبيعة المجتمع، ويؤثر فيه ويتأثر به، والثبات القانوني إذ كان هو السبيل لاستقرار المعاملات، فإن حياة التشريع ترتبط بانسجامه مع متطلبات التطور، فلا يجب أن يمنع عنه كل تعديل لا يكون مصدره الإرادة العقدية، طالما كان هذا التعديل أمرا لازما وضروريا لحياته. فالقاضي مهما حاول إعادة التوازن إلى العقد، فإن ذلك يبقى مجرد محاولات فاشلة في غياب تدخل تشريعي، بل إن القاضي لا يريد أن يكون كرجل اقتصاد داخل المحكمة.
وهذا راجع إلى شيخوخة قانون الالتزامات والعقود وعدم قدرته على ضبط جميع المفاهيم الاقتصادية وتنظيمها مما أثر على وضعية العقد بين الثبات والانهيار أمام موجة التغيير، فما هي إذا آثار هذه التغيرات على مصير العقد؟
المطلب الأول: ثبات العقد واندماجه أمام التطورات الاقتصادية
العقد أهم وسيلة ابتكرها الفكر القانوني لتنظيم المعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية[11].
وعليه فالعقد أصبح في الحياة المعاصرة يتطلب مسايرة التحولات الاقتصادية ومن تم يستدعي ذلك من المتعاقدين حسن النية في التعامل والأمانة التي تفرض على المتعاقدين الثقة في تنفيذ التزاماتها في جو يطبعه الصدق والتعاون، لأن العقد يقوم على فكرة التعاون، وبذلك يكون عهدا من جانب المدين الملزم بوفائه وتضحية من جانب الدائن، يجب أن يبذلها إذا دعت الضرورة إلى ذلك، فلا يجب أن ينظر إلى الالتزام العقدي من جانب أحد المتعاقدين دون الآخر، ولعل خير مثال نقدمه بهذا الخصوص هو ما تضمنته مدونة التجارة في الكتاب الخامس المتعلق بنظام معالجة المقاولة إذ نجد أن كتلة الدائنين تتضامن وتتعاون من أجل إنقاذ المقاولة من الصعوبات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بالمقابل خو آية حماية للدائنين لاستيفاء ديونهم؟ أم أنهم ملزمون بتقديم تنازلات وتضحيات قومية للحركة التجارية والصناعية
ولعل مكن بين أهم أنواع التقنيات والممارسات الجديدة في التعاقد نجد الشراء عن طريق التليفزيون والانترنيت والبيع بالسلف وعقد الائتمان الإيجاري والكراء المفضي إلى التملك وعقد الفرنشيز والاعتماد المستندي والبيع بالخسارة وعقد البيع المنزلي وعقود بنكية متعددة...
إضافة إلى ما سبق ما يلفت الانتباه هو أن رجال القانون عادة ما يستعملون في تحليلاتهم مصطلحات اقتصادية مثل: الاستهلاك، المنافسة، الاحتكار، حرية المبادلات، الاستثمار، الضريبة، التجارة الدولية، الربح، سعر الفائدة، الخسارة...
وقد تدخل المشرع كذلك ليضع الأساس السليم القائم على المصلحة العامة في العقود ببروز أسلوب تنميط العقود في مجموعة من الميادين مثل عقد الرحلة المنظمة، ويعتبر هذا التدخل أو هذه العقود النمطية ثورة على قانون الالتزامات والعقود، لأنها نظمت من خارجه وليس من داخله.فهي صورة لمحاولة المشرع إدماج العقد وحفظ الثبات له أمام هذه التطورات الاقتصادية.
فالقواعد العامة عجزت عجزا تاما عن احتضان العقود الجديدة ومسايرة بذلك الظاهرة الاقتصادية، وفي إطار دائما مقاربة مدى ثبات العقد نجد أنه ظهرت العقود الإلزامية المفروضة على الأطراف بقوة القانون كما هو والحال مالكم السيارة الملزم بالتأمين ضد المسؤولية التي يمكن أن تنشأ تجاه ضحاياه المحتملين، أو تلك المقتضيات التي جاء بها قانون التأمين على حوادث الشغل والأمراض المهنية والتي أصبحت تفرضها الظروف الحالية للتطور الذي يشهده المغرب، فهي عقود تلزم المتعاقد في إرادته التي لا تحتل سوى مكان ثانوي.
كما يعد قانون المنافسة وحرية الأسعار شاهدا آخر على هذه الهشاشة، ذلاك أنه قانون متعدد التخصصات، فهو يتضمن امتداد وتقاطع القوانين بين القانون المدني والجنائي وأخيرا القانون الإداري، وهذا الارتباط بين هذه القوانين هو ارتباط وثيق جدا يستعصي معه تصنيفه في خانة محددة لتجانسها[12]، في قالب قانون المنافسة وحرية الأسعار متوخيا من ورائه تحقيق تنافس شريف إلى جانب تعاقد قد يروم نحو الإنصاف، وكفالة سلامة الرضا وحرية الإرادة والاختيار المتبصر تفاديا للوقوع في حبائل التضليل والغش والاستغلال. وبهذا الخصوص أيضا فقد صدر مؤخرا القانون المتعلق بحماية المستهلك لتطوير الآليات التشريعية من أجل مواجهة صعوبات التحديات الاقتصادية وتأطير هذه العلاقة بين المهني والمستهلك بصورة أفضل تستجيب لسياسة الوحدة الأوربية وتساهم في تقوية السوق الداخلية وتطوير آلياتها.
ولا ننسى أن نشير أيضا أنه رغم محاولة العقد الثبات والاندماج مع هذه التطورات كما سبقت الإشارة، إلا أن هذا لا ينفي أنه لا زال عاجزا عن مواجهة ومقاربة بعض المجالات الحيوية الاقتصادية بهذا الخصوص، ويقف مكثف الأيدي حيالها، بالرغم من هذه الترسانة المتزايدة للقوانين، فلازال يشكو من الخصاص حتى يواكب الثبات والاندماج الكلي مع التحولات الاقتصادية الآنية والمستقبلية.
المطلب الثاني: انهيار العقد وتراجعه أمام التحولات الاقتصادية
هكذا وكما سبق توضيحه، فإن كل هذه المتغيرات هي المقصود منها التحولات الاقتصادية بمعناها الواسع والتي أثرت في العقد بشكل جلي، وإن كان يصعب ضبطها، ووضع تعريف أو تحديد لها، لأن أي محاولة من قبيل ذلك ستتعرض بدورها لتحول سواء في الحال أو في المستقبل، وإن كان هذا التأثير إيجابي من حيث التطورات الحاصلة في مجال العقود إلا أن هذه العقود تحمل في طياتها اختلال التوزان العقدي، إذ أصبحت التشريعات تضع قواعد آمرة منظمة لهذه العقود، بعد أن كانت تقتصر على وضع وقاعد مكملة لإرادة الأفراد فقط، وأصبح بذلك دور الإرادة في إنشاء الالتزامات وترتيب الآثار يتقلص، فتمخض الفكر الاقتصادي عن صياغته عقود نموذجية تبرم بالإذعان وهذه الأخيرة توجد عن النقيض تماما مع العقد بمفهومه التقليدي المشبع بمبدأ سلطان الإرادة لأن لا مجال فيها للتراضي ولا وجود لها يسمى تجربة التعاقد ومضمون العقد لا يعده الأطراف واحد وما على الطرف الآخر الانقياد والانضمام إلى العقد.
في هذا الإطار نذكر أن العقد هو اتجاه إرادة الأطراف إلى إحداث أثر قانوني سواء كان هذا الأثر ينصب حول إنشاء أو تعديل أو إنهاء حق،  وبناء عليه يعتبر اتفاق الأطراف هو أساس تنظيم هذه العلاقة اعتبارا لكون العقد شريعة المتعاقدين، أي أن العقد يتضمن القواعد التي يخضع لها أطرافه، ويترتب عن ذلك أنه لا يجوز نقض العقد أو تعديله إلا باتفاقهم (المادة 230 ق.ل.ع.م)
من هذه الزاوية في إطار صعوبة المقاولة نلاحظ أن العقد أصبح يجسد قيمة مالية تنخرط في تقويم المقاولة مما جعل الهاجس الاقتصادي يهيمن على مستقبل العقود  ضمن هذه المؤسسة وهو وضع لا بد وأن يترك بصمات واضحة على مستوى المفاهيم التقليدية للعقد.
بحيث أصبح إنهاء العقد أو مواصلته يستند إلى اعتبارات اقتصادية كسد مصلحة المقاولة والسنديك هو الذي يحدد هذه المصلحة وكذا العقود المرتبطة بالمحافظة على نشاط ومستقبل المقاولة على حساب قواعد جوهرية في نظرية العقد، مما يجعل المتعاقد الآخر يواجه بتدابير خاصة تضيع معها حقوقه
أما العقود النمطية كمولود جديد اقتحم عالم المعاملات لا يمكن إدراجه ضمن تقسيمات الأفقية للعقود، ولكنه على العكس تماما اتخذ لنفسه تقسيما مضادا تقسيمات عموديا لا يعترف بالحدود ولا ينضبط لمسلمات وعقد كهذا شأنه يجعل تعريفه أمرا صعبا، فهو ليس عقد تقليديا يمكن أن تعرفه انطلاقا من أطرافه ومحله وسببه وإنما عقد يقف مؤقتا مناقضا لكل القواعد العامة بل وحتى الخاصة أيضا ذو طبيعة تتكفل الدولة من خلال سلطتها التشريعية بتنظيمه من البداية إلى النهاية، فما مدى توفير الحماية من الشروط التعسفية في هذه العقود؟ هكذا تكون العوامل التي أدت إلى انتكاص مبدأ سلطان الإرادة هي ذاتها التي قامت عليها إلى جانب العوامل السياسية.
خلاصة القول، وكما قال بعض الفقه إننا أصبحنا أمام انهيار للعقد، وأنه لم يبق من هذا الأخير إلا الاسم فقط "أزمة العقد"، وهذا أصدق تعبير يمكن أن يطلق على الحالة التي وصل إليها هذا الأخير، فكل المحاولات التي تم نهجها في سبيل إنقاذ مؤسسة العقد من الانهيار باءت بالفشل، ولم تأتي أكلها، فلا تعديلات المتلاحقة على القوانين المدنية نجحت والاستثناءات التي تم إيرادها على المبدأ أفلحت، وانهياره يعني انهيار كافة المعاملات لذلك لم يجد هذا الفكر مرة أخرى بدا من البحث الجاد عن وسيلة أو جديد من علاقات التعاقد حكمه نظام قانوني جديد يصلح لضبطه وتنظيمه.

إذا كان من نتيجة نخلص إليها في الختام هو أن هذا الموضوع يثير جدلا عميقا وتضاربا بين المصالح الاقتصادية والمبادئ التعاقدية.
وإذا كانت العولمة أداة لتنشيط التجارة العالمية وفتح المجال أمام المبادرة الخاصة وخصوصا حركية رؤوس الأموال واليد العاملة في انتشار أحدث التقنيات، فهي مع ذلك لا تخلو من آثار سلبية، فإذا كانت اقتصاديات الدول المتقدمة قادرة بفضل بنيتها القوية على امتصاص الهزات الاقتصادية العنيفة وتجاوز الانعكاسات الخطيرة التي تترتب على العولمة باعتبارها في واقع الأمر حيلة اقتصادية للتمكن من فتح جميع أبواب العالم أمام منتجاتها دون أن تتمكن الحواجز الجمركية من أن تجد لها سبيلا لإيقافها أو على الأقل تقييدها، فإن الدول النامية وعلى النقيض من ذلك، لن تستطيع أن تتجاوز الآثار السلبية للعولمة بسبب بنيتها الاقتصادية الهشة، حيث لم يبق أمامها من حل سوى البحث عن الحلول الملائمة لتجاوز – أو على الأقل- تجنب الهزات العنيفة عن تطبيق نظام العولمة.
وأمام هذه التحولات الاقتصادية أدى تطور نظرية العقد إلى قيام المشرع المغربي بإعادة النظر في القواعد والقوانين المشبعة بمبدأ سلطان الإرادة والمذهب الفردي وتدل لحماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية وتحقيق نوع من التوازن بين الأطراف، فتارة نجد في صف المكري، وتارة أخرى في صف المكتري، ولأن هذا التدخل التشريعي يبقى محدود ومحكوما بالقواعد العامة كما أنه لازال محتشما ولا يساير المستجدات في المجالات الاقتصادية، التي لا ندري ماذا تحفي وراءها في المستقبل وما ستأتي به من مفاهيم جديدة على مؤسسة العقد خاصة وأن المسيرة والحلقة الاقتصادية لا تعرف التوقف، بل هي دائما في تطور مستمر وحركة دؤوبة، فالأمر يستدعي في هذا المجال التوفيق بين اتجاهين ظاهرهما متناقض لكنهما يتكاملان في الواقع: الليبرالية في صورتها الجديدة والتوجه الاقتصادي دون ترك الأفراد يتعاقدون بحماقة بواسطة قواعد لا تترك الحرية المطلقة في صياغة العقود وفرض الشروط قواعد تحافظ على التوازن العقدي كوسيلة من أجل تحقيق غاية هي خدمة الظاهرة الاقتصادية. فالقواعد التي نتكلم عنها لا تهدف لحماية طرف معين بقدر ما تسعى لحماية الاقتصادية، فإذا تحققت هذه الحماية تحققت معها بالنتيجة حماية الطرفين في العقد.

من إنجاز الطلبة:
الزياني سميرة

أعبيد بوشرى

أجكان عائشة 


التصميم

مقدمة
-      المبحث الأول: علاقة العقد بالظروف الاقتصادية
·       المطلب الأول: تدخل الدولة لتوجيه الاقتصاد
·       المطلب الثاني: تدخل الدولة لتوجيه العقد
- المبحث الثاني: مصير العقد نتيجة الظروف الاقتصادية
·       المطلب الأول: ثبات العقد واندماجه أمام الظروف الاقتصادية
·       المطلب الثاني: انهيار العقد وتراجعه أمام الظروف الاقتصادية.
خاتمة.
لائحة المراجع
الكتب
محمد الشرقاني: النظرية العامة للالتزامات (العقد)، سنة 2004-2005،
أمينة ناعمي: حقوق الامتياز في مسطرة صعوبات المقاولة، مجلة القصر العدد السادس، السنة 2003.
حسني عبد الباسط جميعي: اثر التكافؤ بين المتعاقدين على شروط العقد، دار النهضة العربية 1990/1991.
حسني عبد الباسط جميعي: اثر التكافؤ بين المتعاقدين ، دار النهضة العربية 1990/1991.
الندوات
الحسين بلحساني: قانون المنافسة وحرية الأسعار بين المؤثرات الخارجية والإكراهات الداخلية، أشغال ندوة العلاقات التجارية وتنافسية المقاولات في التشريع المغربي والمقارن بطنجة يومي 12 و13 يناير لسنة 2001.
الرسائل:
البشير دحوتي: اثر التحولات الاقتصادية على العقد رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، السنة الجامعية 2003-2004


[1]- البشير دحوتي: اثر التحولات الاقتصادية على العقد، ص 40.
[2]- محمد الشرقاني: النظرية العامة للالتزامات (العقد)، سنة 2004-2005، ص 39.
[3]- محمد الشرقاني: م.س، ص 40-41.
[4]- البشير الدحوتي: أثر التحولات الاقتصادية للعقد، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، السنة الجامعية 2003-2004، ص 12- 14.
[5]- البشير الدحوتي: م.س، ص 10.
[6]- البشير الدحوتي: م.س، ص 2.
[7]-  نفس المرجع والصفحة.
[8]- أمينة ناعمي: حقوق الامتياز في مسطرة صعوبات المقاولة، مجلة القصر العدد السادس، السنة 2003، ص 117.
[9]- البشير الدحوتي: م.س، ص 44.
[10]- البشير الدحوتي: م.س، ص 18.
[11]- الحسين بلحساني: قانون المنافسة وحرية الاسعار بين المؤثرات الخارجية والإكراهات الداخلية، أشغال ندوة العلاقات التجارية وتنافسية المقاولات في التشريع المغربي والمقارن بطنجة يومي 12 و13 يناير لسنة 2001، ص 39-40.
[12]- حسني عبد الباسط جميعي: اثر التكافؤ بين المتعاقدين على شروط العقد، دار النهضة العربية 1990/1991.

الخصوصية الموضوعية للقانون الجنائي للأعمال


أمام تطور الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية و  المفاهيم القانونية، أصبح من اللازم على التشريعات  الوطنية اعادة النظر في نصوصها القانونية لتتلاءم مع متطلبات العصر الحديث سواء منها ما يتعلق بالنصوص المدنية أو التجارية أو الجنائية. و لعل بروز الأهمية الاقتصادية في المجتمعات المتقدمة بدرجة كبيرة و المجتمعات المتأخرة بدرجة أقل، كان الحديث عن الجرائم المرتكبة في مجال المعاملات التجارية و الاقتصادية وقع كبير على الفقهاء و طرحت أسئلة كثيرة و متنوعة حول الفائدة التي يقدمها القانون الجنائي العام بخصوص الحماية القانونية لذلك المجال و الضمانات التي يوفرها للحفاظ على الثقة و الائتمان اللذان يعتبران أساس التجارة و الاقتصاد، خاصة و أن تلك الجرائم تمس بالنظام العام الاقتصادي. و قد نادى الكثيرون من رواد الفقه الوضعي بضرورة انشاء قانون مستقل يكون فرع من فروع القانون الجنائي و يتناسب مع الجرائم المرتكبة في المجال المعاملات التجارية و الاقتصادية أطلق عليه القانون الجنائي للأعمال.
إن القانون الجنائي للأعمال هو قانون جديد، لا يقتصر على الجرائم الكلاسيكية المعروفة في القانون الجنائي العام و المسماة بجرائم الأموال بل إن نطاقها اتسع ليشمل جرائم الأعمال بالمفهوم الحديث له، حيث أن هذه الجرائم تتصل بشكل مباشر بالحلقات الثلاث للدورة الاقتصادية و هي الانتاج، التوزيع، الاستهلاك. و لهذا فقد جاء على لسان أستاذنا الدكتور عبد السلام بنحدو “أن القانون الجنائي للأعمال هو في حقيقته سوى تطبيق القانون الجنائي العام و قانون المسطرة الجنائية في ميدان المال و الأعمال”. و منه يمكن القول أن القانون الجنائي للأعمال هو في الأصل يحتكم إلى القانون الجنائي العام، لكنه رغم ذلك يتميز بخصوصيات و استقلالية تميزه عن باقي فروع القانون. و ترجع أهمية هذا القانون إلى كونه يمس العديد من المجالات كالمقاولة و الضرائب و الجمارك و الشغل و هلم جرا، أي يتصل بالمجال التجاري و الاقتصادي و الاجتماعي و المالي. و قد عجز الفقه على اعطاء تعريف جامع و شامل له بسبب تعدد الميادين التي يتضمنها.
و عليه يحق لنا في هذا المقام التساؤل حول القواعد الموضوعية الخاصة بالقانون الجنائي للأعمال؟ و هل  يمكن تحقيق الأماني التي يرغبها الفقهاء في هذا الصدد حول امكانية ايجاد قانون خاص بجرائم الأعمال حيث أن هذا الأخير مشتت بين قوانين الشركات التجارية  و قانون التجارة و قانون الجنائي العام و قانون الجمارك أو الضرائب المباشرة و غير المباشرة و قانون الشغل ؟ كل هذا سنحاول الاجابة عنه و دراسته و تبيان المشاكل التي يطرحها هذا القانون الذي مازال قانونا نظري بالاسم لكنه عملي بالنصوص.
المطلب الأول: طبيعة الشخص المجرم و قيام مسؤوليته الجنائية في القانون الجنائي للأعمال
من أبرز القواعد الخاصة بالقانون الجنائي للأعمال المرتبطة بالجانب الموضوعي، هي تلك المتعلقة بالشخص الجاني أو المخالف للنصوص المرتبطة بمجال المال و الأعمال، و المسؤولية الجنائية التي تتحقق فيه .
الفقرة الأولى: طبيعة الشخص المجرم في القانون الجنائي للأعمال
بخلاف الاجرام العادي، فإن الاجرام المرتبط بميدان الأعمال و التجارة يتم من قبل أشخاص يستعملون معلوماتهم النظرية و المهنية لارتكاب جرائمهم بكل براعة، و بدون عنف و لا دم و لكن بذكاء و تفكير علمي مدعوم بتكتم شديد. و المعنى المستفاد هنا هو أن هؤلاء الأشخاص المجرمون بمقتضى القانون ليسوا أشخاصا عاديين بل يتميزون بالكفاءة العلمية و العملية و المهنية حيث يحدثون أضرارا تتجاوز العنف المادي، فهي جرائم ذوي اللياقات البيضاء كما أطلق عليهم الفقه الفرنسي crimes en col blanc ، أي أن هذا النوع من الاجرام يرتكبه أناس لهم مكانة هامة في المجتمع، و لا يستعملون الأدوات التقليدية لارتكاب جرائمهم بل يلتجئون إلى وسائل و حيل جد متخصصة ( مثلا البحث عن الثغرات الكامنة في التشريع الضريبي للتهرب من دفع المستحقات الضريبية لخزينة الدولة ).
فالمجرم ذو الياقة البيضاء هو مواطن فوق كل شك و مراء يعي الأمور غير الشرعية و غير القانونية لفعلته غير الأخلاقية، لكنه لا يشعر أنه مجرم لأنه يقر بعدالة فعله و يحس كذلك بأن له حق شخصي في خرق القوانين بالنظر إلى مركزه الاجتماعي و بالنظر كذلك إلى ما يقدمه للدولة من تشغيله للمواطنين و بالتالي المساهمة في خلق مناصب شغل و محاربة البطالة و أنه يعتبر نفسه معيلا لهؤلاء، و يستحق أكثر مما تقدمه الدولة له و يقر في دواخله أن القوانين الحالية لا تتناسب و التضحية التي يقدمها. فالجريمة هنا كما يقول الدكتور عبد السلام بنحدو ” لا تمت عن لا أخلاقية فاعلها و إنما تعبر عن لا وطنية فاعلها”.
و عليه فإن رجال الأعمال هم المستهدفون من هذا القانون لحماية النظام العام الاقتصادي لوضع حد لعجرفتهم و تطاولهم عن القانون و عن أخلاقيات المهنة، فإن كان رجل الأعمال يعتبر نفسه فوق القانون فلأنه غير وطني و لا يدرك الثقة التي وضعها المجتمع و الدولة فيه، و هذا ما دفع المشرع إلى اعتراض المخالفات و الجرائم التي تمس بالاقتصاد الوطني و بخزينة الدولة و بمجال التشغيل، فكم من رجل أعمال قام بفعلته و أدى إلى افلاس مقاولته و شركته و الى فقدان الأجراء مناصبهم. و رجل الأعمال هو ليس ذلك الشخص التاجر صاحب المقولة (رئيس المقاولة أو الشركة التجارية) بل هو أيضا المسير و المتصرف باسم الشركة سواء القانونيين أو الفعليين، و بالتالي فإن المديرون و أعضاء الجهاز الإداري للشركة و التجار هم الذين يشملهم هذا القانون.
الفقرة الثانية: قيام المسؤولية الجنائية للمسير أو المتصرف
لابد لقيام المسؤولية الجنائية للمسير أو المتصرف في مقاولة تجارية أن تتحقق أركانها الثلاثة و هي الخطأ، الضرر، العلاقة السببية بينهما. لذلك فإن مناط هذه المسؤولية لمسير المقاولة هو الخطأ الشخصي للمسير الذي يقع عليه واجب السهر على الحفاظ على القوانين و الأنظمة داخل المقاولة التي يسيرها، و التي تعتبر من النظام العام حسب المفهوم الحديث لها- و لأنه لا يمكن المساس بكيان ولدت معه شخصية اعتبارية يعد جزء لا يتجزأ من كيان الاقتصاد الوطني.
و يلاحظ أنه في مجال القانون الجنائي للأعمال تأسس المسؤولية الجنائية على القائم بإدارة أعمال الشخص المعنوي، و هو ما يؤكد لنا خصوصية هذا القانون فيما يتعلق بقواعد المسؤولية الجنائية فهذه الأخيرة طبقا للقاعدة التقليدية لا يجوز مساءلة شخص الا عن فعله الشخصي و هذا عكس ما يأخذ به القانون الجنائي للأعمال إذ باعتبار المقاولة مركز التقاء عدة فاعلين، فإن لكل منهم دورا في اقتراف الفعل الجرمي و بالتالي يظهر لنا أن هناك خاصية في اسناد المسؤولية الجنائية في ميدان الأعمال يلقي بظلاله على نظرية الشريك الجنائي، خاصة في ميدان التهرب الضريبي و جرائم الشركات و الافلاس، حيث تتم متابعة الشريك الغير التابع للشخص الاعتباري. و يؤسس الفقه المسؤولية الجنائية هنا عن فعل الغير بعدم تدخل المسير أو المتصرف في الوقت المناسب أي أنها نوع من الاهمال في مراقبة متبوعيه و عدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة لاختيار الشخص الكفؤ المناسب لأداء المهام، هذا فضلا عن كون المسير الفعلي يتحمل كذلك المسؤولية الجنائية بل تقوم في حق مراقب الحسابات أيضا.
و على أساس ما سبق، تنبني مسؤولية الشخص المعنوي على أساس فكرة الخطر المرتبط بممارسة السلطة في المقاولة، و الهدف من تقرير هذه المسؤولية هو وقف النشاط غير المشروع للشركات أو المنشآت الاقتصادية، و ينتج عنه سحب رخصة مزاولة المهنة أو النشاط أو حل الشخص المعنوي و هو ما ياقبل سلب الحرية كجزاء مقرر للشخص الطبيعي.
المطلب الثاني: تلاشي الركن المعنوي و طبيعة الجزاء في القانون الجنائي للأعمال
يظهر لنا بجلاء هيمنة المسؤولية الجنائية المادية للأشخاص الطبيعيين و الاعتباريين في مجال الأعمال و هو ما يجعل من القانون موضوع الدراسة ذا خاصية فريدة من نوعها يخرج بذلك عن القواعد العامة المعروفة في القانون الجنائي العام، كما أنه و للمجال الذي يمارس فيه الشخص المخالف للقواعد القانونية و هو ميدان التجارة و المال و الأعمال فإن طبيعة الجزاءات المفروضة على هذا المخالف تميز القانون الجنائي للأعمال عن غيره من فروع القانون الأخرى.
الفقرة الأولى: تلاشي الركن المعنوي في بعض جرائم الأعمال
إذا كان البعض يرى أن الطابع الغالب على جرائم الأعمال هو عدم اشتراط الركن المعنوي و بالتالي الاكتفاء بالركن القانوني و الركن المادي في جرائم الأعمال، فإنه في حقيقة الأمر لم يستبعد المشرع نهائيا ضرورة توافر الأركان الثلاثة للجريمة في هذا المجال ( الركن القانوني، الركن المعنوي، الركن المادي ) بل إنه حافظ على هذه القاعدة في القانون الجنائي للأعمال، حيث يتوجب للقول بقيام جريمة من جرائم الأعمال كل من الأركان الثلاثة للجريمة، و هذا دليل آخر على أن الشارع يحتكم في كثير من الأمور المتعلقة في هكذا جرائم بالقانون الجنائي العام.
و لعل من أهم جرائم الأعمال التي نص المشرع على ضرورة توافر الأركان الثلاثة للجريمة، هي جريمة إساءة استعمال أموال و اعتمادات الشركة و التي تدخل ضمن خانة جرائم الشركات ( المادة 384 من قانون شركات المساهمة المغربي ) فالغاية من ذلك هو اتصال المقاولة بالنظام الاقتصادي العام و الاجتماعي و الذي يسعى المشرع إلى ترسيخه و ضبطه.
و الركن القانوني هو كل تحديد للقواعد الآمرة و الناهية و العقوبات المترتبة عن مخالفتها، أي تنصيص القانون على الفعل المجرم إذ لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص و هو ما يعرف بمبدأ شرعية الجرائم و العقوبات. أما الركن المادي فهو كل سلوك اجتماعي مخالف للنظم التي اعترف بها المجتمع و التي كرسها قانون العقوبات و أرفقها بجزاءات تمس بمن يخالفها، و يجب أن يكون هذا السلوك سلوكا ظاهريا و ليس باطنيا بمعنى أن يتخذ شكلا ماديا و الذي يضفي عليه صفة الجرم أو محاولة الجرم. و أما بخصوص الركن المعنوي فإنه لا يختلف في جرائم الأعمال فيه عن جرائم القانون الجنائي العام، و القصد الجنائي في جرائم الأعمال يقوم مثلما يقوم في جرائم عامة، على العلم و الإدراك بطبيعة الفعل و بنتيجة و ارادة احداثها و يمكن أن يكون هذا القصد قصدا عاما و في بعض الجرائم قصدا خاصا كجريمة اساءة استعمال أموال و اعتمادات الشركة مثلا، كما يمكن أن يتحقق الركن المعنوي في صورة الخطأ أي أن تقع الجريمة نتيجة اهمال أو قلة احتراز أعدم مراعاة للقواعد القانونية و الأنظمة الداخلية للمقاولة مثلا.
و على أية حال، فطبيعة جرائم الأعمال و ضرورة تطبيق السياسة الاقتصادية و تنفيذا لأحكامها، تطلبت هذه السياسة اضعاف الركن المعنوي و عدم التشديد في اثباته، وهو ما عبر عنه الفقه بتلاشي الركن المعنوي، حيث تتم المعاقبة على بعض الأفعال دون اشتراط للركن المعنوي ( القصد الجنائي أو سوء نية )، و ذلك على أساس المسؤولية الجنائية المفترضة التي تعتمد على الخطأ في التسيير و التدبير و بالتالي تظهر لما الأهمية الكبيرة للخطأ غير العمدي في مجال جرائم الأعمال فتوقيع العقوبة هنا يتم بمجرد حصول النتيجة دون النظر إلى القصد الجنائي، إذ يتم الاقتصار على وجود عنصر الاهمال و عدم التبصر فقط دون البحث عن سوء نية الفاعل.
و على أساس ما سبق، نستشف أن هناك اختلاف جلي بين أساس العقاب في القانون الجنائي العام و الذي يقوم على وضع حد للانحطاط و الخبث داخل المجتمع و بين أساس العقاب في القانون الجنائي للأعمال و الذي يهدف إلى وضع حد للعادة السيئة لرجال الأعمال الذين لا يعوزهم لا الوازع الأخلاقي و لا الوازع الوطني.
الفقرة الثانية: طبيعة العقوبات المفروضة في مجال جرائم الأعمال
تتنوع هذه العقوبات في مجال الأعمال التي ترتكب فيها جرائم اقتصاديو و مالية، بين العقوبات السالبة للحرية بالنسبة للأشخاص الذاتيين، و بين العقوبات التي تناسب الشخص الاعتباري كالمنع من مزاولة النشاط أو اغلاق المؤسسة و الاقصاء من الصفقات العمومية و المصادرة و اشهار العقوبة في الجريدة الرسمية أو الجرائد المخولة قانونا بمثل هكذا الأحكام. اضافة إلى تعدد الجهات المنفذة للعقوبة الصادرة في حق هذا الأخير: المحاكم، الادارة، و الأبناك.
و جائم الأعمال لا تستهدف الانسان للاضرار به ماديا و  حريته بقدر ما ترمي أساسا إلى الحصول على الأموال بطرق غير مشروعة أو الاعتداء على السياسة الاقتصادية و المالية المتبعة. و لما كان الأمر كذلك، فإننا نجد التشريعات المقارنة تخصص عقوبة خاصة تواجه بها مجرمي مجال الأعمال و المال و هي العقوبة المالية، و لذلك فإن أهم ميزة يتميز بها القانون الجنائي للأعمال هي خصوصية العقوبة التي غالبا ما تتخذ صورة الغرامة. و الحق يقال هنا أن العقوبات المالية هي الكفيلة بردع مثل هؤلاء المجرمين ما دامت أهدافهم الأساسية تكمن في الحصول على أموال بطرق غير مشروعة باستعمال السلطات المخولة لهم في تسيير و إدارة أموال الغير، غير أن ذلك لا يعني بالضرورة اقصاء العقوبات السالبة للحرية من مجال القانون الجنائي للأعمال.
و هنا يطرح تساؤل حول سبب تغليب عقوبة الغرامة على العقوبة الحبسية خاصة في ميدان الشركات و المقاولات التجارية؟
إن اتيان الأفعال المادية المكونة للجريمة ( السلوك الايجابي و السلبي، النتيجة الاجرامية، العلاقة السببية بينهما ) يعفي النيابة العامة من اثبات اتجاه ارادة الجاني إلى ارتكاب هذه الجريمة. و لأجل ذلك نجد المشرع يعاقب على أغلب الجرائم المتعلقة بميدان الأعمال بعقوبة الغرامة فقط دون العقوبة الحبسية، كجريمة الاصدار غير القانوني للأسهم من طرف مسيري و مؤسسي شركة مساهمة و ذلك عندما يقومون باصدار أسهما قبل تقييد و تسجيل الشركة بالسجل التجاري مثلا. لكن فداحة الأعمال الاجرامية المرتكبة أحيانا في ميدان الأعمال بل إن عدد الجرائم التي تتضمنها النصوص المتعلقة بالشركات بالمغرب يصل إلى حوالي 338 جريمة، جعلت المشرع لا يقتصر على الغرامات المالية وحدها، بل نص كذلك على عقوبات حبسية تناسب خطورة الجريمة و المجرم، كما هو الأمر بالنسبة لجريمة النصب ( الفصل 540 من القانون الجنائي المغربي ) و جريمة اصدار الشيك بدون رصيد ( الفصل 543 من نفس القانون ) و جريمة اخفاء الأشياء المختلسة أو المبددة أو المتحصل عليها من جناية أو جنحة (الفصل 571 من نفس القانون )، حيث تصل العقوبة في مثل هكذا الجرائم إلى خمس سنوات.
خاتمة:
إن سياسة التجريم في القانون الجنائي للأعمال تعميما و في القانون الجنائي للشركات تخصيصا بالرغم من اعتمادها على الجزاءات المالية لتناسبها مع جشع المستثمرين و المضاربين من أجل الربح غير المشروع، فإنها شكلت ناقوس خطر بالنسبة لرجال الأعمال و جعلتهم يرفضونها بشدة مبررين موقفهم بأن هذه السياسة تحرمهم من حرية المبادرة بل و تهددهم في بعض الأحيان حتى في حسن نواياهم ما دامت تعاقب هذه النصوص على مجرد الاهمال و عدم التبصر أو النسيان و هي خلة إنسانية. و هو ما يدفعنا في هذا المقام إلى القول بأن هؤلاء على صواب لأنه يجب النظر إلى هذا المجال من عدة زواية و ليس بنظرة شمولية و عامة، فهيمنة القانون الجنائي على مجال الأعمال أصبح متجاوزا حاليا فمثل هكذا الاحتكام يؤرق المستثمرين و يضعف قدرة البلاد على جلب المستثمرين الأجانب و الوطنيين من أجل التنمية الاقتصادية و الاجتماعية. و كان على المشرع احترام وظيفة القانون الجنائي بحيث لا يجب الالتجاء إليه إلا عند عدم نجاعة التدابير التي تناسب مجال الأعمال.
و التجريم هنا هو في حقيقته تجريم ممنهج و آلي يشكل خطرا على الاستثمار و النماء و بالتالي على الرفاه الاجتماعي و مساهمة القطاع الخاص في التنمية المستدامة، أضف إلى ذلك أنه نلاحظ مظهر من مظاهر تعقيد خاصة فيما يتعلق بالإحالة سواء تلك المتعلقة بالقانون الواحد بين نصوصها أو تلك المتعلقة بالإحالة إلى قانون آخر ( الإحالة إلى القانون الجنائي ). كما أن عدم الإقرار بشكل واضح بمبدأ المسؤولية الجنائية المزدوجة كالجريمة التي يرتكبها مثل الشركة باسمها و يرتكبها لمصلحته الشخصية تنذر بأن المشرع لم يكن موفقا في تنظيمه لهذا المجال و هو ما يجعلنا ندعوه إلى الابتعاد عن التصوف القانوني و التعقيد.
و القانون الجنائي للأعمال ليس قانونا مستقلا بذاته بل هو نظري من حيث دراسته أي أنه غير مقنن و ليس من السهل القيام بدراسته و جمع المجالات التي ينظمها، فهو يتعلق بالمجال الضريبي و الجمركي و الشعل و المقاولة مما عجز معه الفقه على اعطاء تعريف له. و من هنا تظهر لنا صعوبة تجميع جميع تلك النصوص لتكون لنا محموعة تشريعية خاصة يمكن على الأقل الاستئناس بها بدل البحث في مختلف القوانين التي يصعب انتقاء ما يتصل بها بجرائم الأعمال و لكن رغم ذلك فقانون جرائم الأعمال هو قانون نظري بالاسم لكنه موجود بالنصوص المتفرقة و المشتتة بين أكثر من قانون.